المناعة وأمراض الحساسية
عند دخول مادة يعدها الجسم غريبة عنه، وهي في الوقت نفسه ـ مولدة للمضاد، يفرز جهاز المناعة مواد كيماوية،
قد تسبب أعراض الحساسية المختلفة. وقد تكون هذه المادة جسم حبوب لقاح النباتات، أو أتربة، أو رائحة نفاذه صادرة من مواد كيميائية، مثل رائحة الدهان أو الطلاء أو العطور. وتؤدي هذه المواد المستنشقة، عموماً، إلى حساسية بالأنف، ورشح، وربو شُعَبي. وقد تحدث الحساسية، كذلك، نتيجة تناول طعام معين، مثل الموز، والفراولة، والشيكولاتة، والأسماك، وغيرها من الأطعمة التي تسبب تفاعلات خاصة، تؤدي إلى ظهور الحساسية الجلدية، أو في أغشية الجهاز الهضمي. تؤدي بعض الأدوية إلى حدوث حساسية، تتراوح ما بين الطفح الجلدي والهرش، إلى حدوث صدمة Shock، وهبوط حاد في الدورة الدموية، قد يؤدي إلى وفاة فورية. وبعض الحشرات، مثل النحلة أو الدبور، قد يكون رد فعل جهاز المناعة تجاه لدغتها، صورة من صور الحساسية الجلدية العنيفة. وتختلف المادة المسببة للحساسية Allergen، التي تؤدي إلى رد فعل جهاز المناعة والتفاعلات الكيميائية المصاحبة له، من شخص إلى آخر، من حيث شدة رد الفعل تجاهها. ويعد الجسم المضاد من النوع IgE، مسؤولاً عن مهاجمة الطفيليات Parasites، أو المادة المسببة للحساسية؛ لذا، نراه معملياً يزداد في أي من الحالتين ولعل هذا يفسر انتشار الحساسية في الدول المتقدمة، لقلة الإصابة بالطفيليات ما يجعل الأجسام المضادة IgE متفرغة لرد فعل الجهاز المناعي، ضد المادة المسببة للحساسية، خلافاً للدول النامية، التي تكثر بها الإصابة بالطفيليات، ولذلك فإن ما يتَبقى من الأجسام المضادة IgE، يكون قليلاً نسبياً لحدوث الحساسية.
مراحل حدوث الحساسية:
أ.
المرحلة الأولى أو مرحلة التعارف:
عند دخول المادة المسببة للحساسية Allergen للجسم، من طريق احتكاكها بالأغشية المخاطية مثلاً، يتعرف جهاز المناعة على هذه المادة، ويكون رد فعله في هذه المرحلة على مستوى الخلية فقط، ولا يحدث ذلك أي أعراض أو أضرار، ولكن فقط يكوّن جهاز المناعة أجساماً مضادة من النوع IgE ضد المادة المسببة للحساسية، وذلك بمشاركة الخلايا التائية والبائية. ولكي يحدث ذلك، فإن الخلايا البالعة تلتهم هذه الأجسام وتفتيتها، ثم تقدمها إلى الخلايا التائية التي تتعرف على هذه المادة وتكوينها الكيميائي وبصمتها الجينية، ثم تفرز الخلايا التائية مادة الأنترليوكن Interlukine، التي تحفّز الخلايا البائية على إفراز أجسام مضادة من نوع IgE، فتلتصق هذه الأجسام على مستقبلات خلوية على جدار الخلايا السائدة Mast cells، أو الخلايا القاعدية الصبغة Basophillic cells. وبوجود الأجسام المضادة على هذه الخلايا، فإنها توضع في حالة استنفار، وتحفز لمثل هذه المواد المسببة للحساسية، في حالة دخولها الجسم مرة أخرى.
ب.
المرحلة الثانية، أو المرحلة الحادة:
تبدأ هذه المرحلة بدخول المادة المسببة للحساسية Allergen الجسم مرة أخرى، فتجد الخلايا السائدة، والقاعدية الصبغة، وعليها الأجسام المضادة من نوع IgE، المطابقة في تركيبها لهذه المادة المسببة للحساسية فتلتصق بها. فيؤدي ذلك إلى خروج محتويات هذه الخلايا من الهستامين Histamine، الذى يسبب أعراض الحساسية خلال ثوانٍ من دخول المادة (المسببة للحساسية) إلى الجسم. فتوسع مادة "الهستامين" الأوعية الدموية، وتزيد إفراز المخاط من خلايا الأغشية المخاطية، كما تعمل على تضييق الشعب الهوائية. فإذا كان التمدد في الشعيرات الدموية محدوداً، فانه يسبب احمراراً في الجزء الذي تأثر فقط، أما إذا كان التفاعل في كافة الأوعية الدموية، فأنه يؤدي إلى حالة انخفاض حاد في ضغط الدم، مما يؤدي لحدوث صدمة حساسية تسمى Anaphylactic shock، ويحدث ذلك ـ عادة ـ في حالات حساسية البنسلين. وتعمل مادة الهستامين، كذلك، على زيادة تمدد جدر الأوعية الدموية، الأمر الذي يؤدي إلى زيادة مرور السوائل من الأوعية الدموية إلى الأنسجة، فتتورم الأنسجة، ويظهر ذلك في جسم المصاب. كما يسبب الهستامين حكة جلدية وألماً لزيادة تنبيه الأطراف العصبية، نتيجة ضغط السوائل عليها. أما في حالات زيادة إفرازات المخاط من الأغشية المخاطية، فان ذلك يؤدي إلى نوبات من الرشح، والعطس، وضيق في التنفس، نتيجة لانقباض العضلات الدائرية في الشعب الهوائية.
وهناك مواد أخرى تفرز من هذه الخلايا، مثل Prostaglandine وInterlukine، تؤدي كذلك إلى توسيع الأوعية الدموية وانقباض الشعب الهوائية.
ج.
المرحلة الثالثة، أو المرحلة المزمنة:
في هذه المرحلة تجذب الخلايا السائدة النشطة، خلايا أخرى غير نشطة، بسبب المواد التي تفرزها، فتنشط الخلايا الجديدة، وتفرز مواد كيماوية تجذب خلايا أخرى غير نشطة، وهكذا تزداد حدة التفاعل وتستمر فترة أطول، فيصبح شبه مزمن.
أمثلة لأمراض الحساسية:
أ.
حمى القش Hay fever وحساسية الأنف Allergic Rhinitis:
يحدث هذا النوع من الحساسية مع قدوم فصل الربيع، ونهاية فصل الشتاء، وكذلك في فترة الرّياح الخماسينية، وتستمر الأعراض لفترة قد تصل إلى شهرين، ثم تختفي، لتعود للظهور في التوقيت نفسه من العام القادم. والأعراض هي: العطس، وانسداد الأنف، والرشح المستمر، وأحيانا يحدث احمرار بالعين، وتغيير في الصوت، واحتقان بالزور، ونادرا ما يصاحب ذلك إحساس بهرش في الجلد.
ويسبب هذا النوع من الحساسية التعرض لحبوب لقاح الأزهار، أو روائح الزهور والحشائش والأتربة، والرطوبة، والدخان، وشعر الحيوانات، مثل الكلاب والقطط، والقش، الذي سميت هذه الحساسية باسمه "حمى القش"، وذلك في أماكن تجميع الغلال، والقمح، والحبوب، وصناعة التبن، وأعلاف الحيوانات.
ب.
الربو الشُّعبي، أو الحساسية الصدرية Bronchial asthma:
تحدث في الشتاء، وفي فترات ما بين الفصول، وتقل شدة الأعراض في الأطفال بالتدريج كل عام حتى تشفي تماماً في سن ست سنوات، أو عشر سنوات، وأحياناً تستمر حتى سن البلوغ. أما في الكبار فهي مستمرة مدى الحياة. ويؤدي استنشاق المادة المسببة للحساسية، إلى ضيق مفاجئ في الشعب الهوائية، ما يجعل الهواء يحدث صوتاً مسموعاً أثناء الزفير يُسمى، تزييق wheeze، مع سرعة التنفس وصعوبته، وحدوث تجمع مخاطي بالشعب الهوائية، وسعال شديد. وهناك أنواع كثيرة من الربو الشُّعبي، مثل ذلك الذي يحدث مساءً فقط، ويسمى الحساسية أو الأزمة الليلية Nocturnal asthma، أو النوع المصاحب لممارسة التمارين والألعاب فقط، ويسمى حساسية الألعاب الرياضية Exercise induced asthma. وفي هذه الحالة يعطى المريض دواءً موسعاً للشعب، قبل ممارسة الألعاب الرياضية.
ج.
أمراض الحساسية الجلدية:
(1)
الحساسية الفقاعية Papular Urticaria:
هي فقاعات صلبة بالجلد، تحتوي على سائل. وتبدأ، عادة، باحمرار وتدرن في مكان الحكة الجلدية، ثم تظهر الفقاعات، وذلك في مناطق اليد، والساق، وأسفل البطن. ويرجع السبب في حدوث هذا النوع من الحساسية عند بعض الأشخاص، إلى تناول أطعمة معينة، أو لبس ملابس صوفية، أو ألياف صناعية، أو لدغ حشرات.
والحساسية الفقاعية، متكررة، وسببها وجود أجسام مناعية تتحد مع طبقات الجلد، في وجود المركب البروتيني المكمل.
(2)
التيبس الجلدي Sclerema:
يحدث هذا المرض نتيجة خلل واضطراب في جهاز المناعة، لسبب غير معروف حتى الآن، ويتسبب في إتلاف الأنسجة الضامة بالجسم، فيكتسب الجلد قواماً جامداً ويلتصق بالأنسجة أسفله. فيصبح سطحه أملس، والجلد والوجه، مشدودين تماماً. وقد يمتد هذا المرض ليصيب كافة الأنسجة الضامة بالجسم، مما يؤدي إلى فشل أو تليف بالرئة، أو اضطرابات بالقلب.
د.
الحساسية الدوائية Drug allergy:
قد يُصاحب تناول الأدوية أحياناً بعض الآثار الجانبية، والتفاعلات غير المرغوب فيها، ومنها الحساسية التي تصيب بعض الأشخاص، وما يزال سببها غير معروف. فقد يتفاعل الدواء نفسه، أو أحد نواتجه بالجسم، مع الجهاز المناعي ويحفّزه ويكوّن أجساماً مضادة، قد تؤدي إلى نتائج غير مرغوب فيها. غير أن تكوين الأجسام المضادة لا يعنى بالضرورة ظهور حساسية، ومثال ذلك تكوين أجسام مضادة للأنسولين، لدى مرض السكر دون حدوث حساسية، بل يؤدي ذلك إلى تقليل تأثير الأنسولين على المرض، ما يدفع الأطباء إلى زيادة الجرعة، أو تغيير نوع الأنسولين، للحصول على النتائج المرجوة من هذا الدواء.
ويشترط لحدوث الحساسية الدوائية، أن يكون الوزن الجزيئي للدواء كبيراً حتى يستطيع أن يحفّز جهاز المناعة. ولمّا كانت أغلب الأدوية وزنها الجزيئى صغير، فهي لذلك لا تسبب حساسية إلاّ بعد اتحادها مع بروتينات أنسجة الجسم، حتى يكبر وزنها الجزيئى.
ويحدث، أحياناً، نتيجة اتحاد الدواء مع بروتينات الأنسجة، أن يؤدي ذلك إلى تغير في نوع هذا البروتين في أماكن مختلفة، مما يدفع جهاز المناعة لأن يعد هذا البروتين الجديد غريباً عليه، ويبدأ في مهاجمته، وهذا تماما ما يحدث في بعض أنواع أمراض المناعة الذاتية بسبب الأدوية، مثل مرض الذئبة الحمراء lupus Erythematosis.
هـ.
العوامل التي تؤثر على حدوث الحساسية الدوائية:
(1)
التركيب الكيميائي للدواء:
بعض الأدوية، مثل السلفا ومركباتها، تؤدي إلى حدوث حساسية أكثر من غيرها، بسبب تركيبها الكيميائي فقط.
(2)
التركيب الجينى للفرد:
هناك أشخاص لديهم استعداد جينى ووراثي لحدوث مثل تلك الأنواع من الحساسية، وهذا يفسر حدوث الحساسية الدوائية لدى فرد واحد من بين مئات الأفراد، الذين يتناولون الدواء نفسه، في فترة زمنية محددة.
(3)
طريقة تناول الدواء:
معظم الأدوية تكون مصحوبة بالحساسية بدرجة كبيرة، إذا أعطيت من طريق الحقن الوريدي، يليه الحقن العضلي، ثم الحقن تحت الجلد، مما إذا تناولها المريض بالفم، أو استعملت ظاهرياً من طريق دهان الجلد مثلا. ويعتمد ذلك على سرعة وصول المادة المسببة للحساسية في الدواء إلى الدم، وتختلف تلك السرعة، باختلاف طريقة الإعطاء، التي أسرعها الحقن الوريدي. وتؤدي الحساسية الدوائية، غالباً، إلى حدوث طفح جلدي، وهرش، وارتفاع خفيف في الحرارة، وقد تؤدي إلى حدوث صدمة حساسية، Anaphylactic shock، تنتهي بالوفاة، خصوصا مع البنسيلين، الذي يجب عمل اختبار حساسية ضده، أو لأي دواء آخر قبل إعطائه من طريق الحقن الوريدي أو العضلي. وتختفي الأعراض ـ عادة ـ عند وقف العلاج بهذا الدواء.
3. علاج أمراض الحساسية:
كان علاج الحساسية قديماً هو علاج أعراضها، ثم أصبح الهدف من العلاج الآن، هو منع حدوثها، ومن ثم منع حدوث أعراضها.
ولهذا، صنع العلماء من طريق الهندسة الوراثية، أجساماً مضادة، مشابهة تماما لجزئ الأجسام المضادة من نوع IgE، وعندما تُحقن في الجسم؛ تلتصق على مستقبلات الخلايا السائدة، فتشغل كل الأماكن المتاحة على سطح الخلية. وعندما تدخل المادة المسببة للحساسية الجسم، وتتكون أجسام مضادة لها من النوع IgE، فإن هذه الأجسام تتجه إلى الخلايا السائدة، فتجد أن جميع المستقبلات ملتصق بها الأجسام المضادة الصناعية، فلا يحدث التفاعل، ولا تحدث أي أعراض من هذه المادة المسببة للحساسية.
وهناك طريقة أخرى لمنع حدوث الحساسية من طريق الهندسة الوراثية، وذلك بتصنيع مادة مشابهة تماماً لمادة Interlukine-4، وهى المادة المسؤولة عن تنبيه الخلايا البائية، لإفراز الأجسام المضادة من نوع IgE. وعند حقن الجسم بهذه المادة المصنعة، فإنها تلتصق بالخلايا البائية في أماكن المستقبلات، ولا يحدث رد فعل. وعندما تدخل المادة المسببة للحساسية الجسم، وتفرز الخلايا التائية هذه المادة Interlukine-4، التي تتجه إلى الخلايا البائية لتحفيزها لإفراز الجسم المضاد IgE، تجد أماكنها مشغولة بالمادة المصنعة الخاملة، وبذلك لا يحدث التفاعل، ولا يفرز الجسم أجساماً مضادة، ولا تحدث أعراض للحساسية.
وهناك علاج آخر لأمراض الحساسية يعتمد على حقن المريض بالمادة المسببة للحساسية Desensitization، ولكن في جرعات مخففة، تزداد بعد ذلك تدريجياً. ويعتمد هذا العلاج على ترويض، أو تقليل، رد فعل جهاز المناعة، حتى يعتاد الجسم على هذه المادة المسببة للحساسية بعد ذلك.
ويعتمد علاج أعراض الحساسية، عموماً، على إعطاء أدوية مضادة للهيستامين Antihistamincs، أو أدوية تحتوي على مادة الكورتيزون، وكذلك إعطاء أدوية جلدية للهرش والاحمرار.